قصص : مغني الليل - زكريا تامر
مغني الليل - زكريا تامر
أوشك الليل أن ينتصف من دون أن يتوقف شفيق الكوا لحظة عن العزف على العود والغناء الأغنية تلو الأغنية، أمام حشد من الرجال الذين أتوا إلى بيت مسعود الأصفر ملبين دعوته السخية إلى سهرة تنتهي عند أذان الفجر حافلة بالطرب وأطايب الطعام ومختلف أنواع الخمور والسجائر المحشوة بالتبغ والحشيش الأصلي، وقد أكلوا الطعام على مهل، واحتسوا كؤوس الخمور، ودخنوا السجائر، وتحادثوا معاً بأصوات مرتفعة عالية، وكان يتعالى بين الحين والحين وسط ضجيجهم صوت مسعود الأصفر مجدداً ترحيبه بهم راجياً منهم أن يأكلوا بلا خجل كأنهم في بيوتهم، ولم يكن شفيق الكوا راضياً عن تلك السهرة، ولكنه استمر في العزف على العود والغناء حتى تقطعت أوتار العود فجأة ولسبب غير معلوم، فتوقف عن الغناء، فشخصت إليه الأنظار مستغربة، وهرع إليه مسعود الأصفر قلقاً، فقال له شفيق الكوا مطمئناً: "قضاء وقدر! سأحاول الغناء بلا عود".
فقال مسعود معترضاً: "ولكننا اتفقنا قبل السهرة على أن تعزف على العود وتغني، فإذا غنيت فقط، فلن تأخذ إلاّ نصف الأجرة". فامتعض شفيق، ولكنه قال لمسعود مسايراً: "كل ما يهمني الآن هو أن يكون ضيوفك مسرورين".
فصاح أحد الرجال بصوت ثمل: "العمى! صوته مع العود كان لا يطاق ومن أنكر الأصوات، فماذا سيحلّ بنا يا شباب إذا واجهنا صوته وحده؟".
وصاح رجل آخر: "أنا سأغني أحسن منه ومجاناً".
وصاح رجل ثالث: "أنا أيضاً مستعد للغناء، وسأدفع لكل قبضاي يصبر على الاستماع لصوتي ما يأمرني به".
وصاح رجل رابع: "ما عرّفتونا بالاسم الصحيح لحضرة المطرب.. شفيق الكوا أم شفيق العوا؟".
فتعالت الضحكات، وعمّ الضجيج، فأحس شفيق أن كرامته أهينت وستهان أكثر لو سكت، فقال لمسعود مشيراً إلى الرجال: "إذا لم يكف الأخوان عن التهكم عليّ وعلى صوتي، فسأترك البيت آسفاً".
فقال له مسعود بصوت ساخط ساخر: "بلا آسفاً بلا قاسفاً! الطريق إلى باب البيت تعرفه أم أدلك عليه؟".
فحمل شفيق الكوا عوده، وغادر بيت مسعود الأصفر، ومشى في الأزقة المظلمة الموصلة إلى بيته وهو يشتم زماناً خسيساً نذلاً أرغم أمثاله على الغناء أمام مجموعة من السكارى المسطولين، وعندما وصل إلى بيته حاول أن يستبدل أوتار عوده، ولكنه لم يعثر لديه على أية أوتار جديدة، ووقف أمام مرآة طويلة، وغنى بصوت خافت ما لبث أن ارتفع وحلق، فجاءه رسول من قصر الخليفة يأمره بالمثول حالاً بين يدي الخليفة للغناء له، فأبى شفيق قائلاً أنه أقسم ألاّ يغني إلاّ للشحاذين، فأتاه الخليفة بنفسه، وبمفرده ومن غير حراس أو أعوان، وقعد على البساط الممدود على الأرض، ورجاه أن يغني له، فلم يتغير جواب شفيق: لا يغني إلاّ للشحاذين، فابتسم الخليفة، وقال لشفيق: "أين عيناك؟ ألا ترى أني لست الآن خليفة المسلمين بل أنا مجرد شحاذ يستجدي قلبه الوحيد القليل من المتع؟". وتنهد الخليفة، وحكى لشفيق عما يشعر به كل ليلة من كآبة قاتلة وعذاب قاهر وسأم مبيد بعد أن هجرته المرأة التي لا يحب سواها، وعشقت عبداً من عبيدها، فأشفق شفيق على الخليفة، ووافق على الغناء له، فقال الخليفة: "كلي آذان صاغية".
وغنى شفيق، فطرب الخليفة أشد الطرب، واستزاده، فلم يبخل شفيق عليه، وغنى ساعات حتى صاح الخليفة بشفيق متضرعاً إليه أن يكف عن الغناء قليلاً قبل أن يتوقف قلبه عن الخفقان لفرط ما شعر به من سعادة وفرح ونشوة، ولم يعد يحتمل المزيد، فأطاعه شفيق، وأصغى مطولاً إلى مدائح الخليفة له، وناشده الخليفة أن يوافق على أن يصبح المغني الأول في مملكته، ولا يحق لأحد الغناء إلاّ بعد أن يمتحنه ويجيزه، فهمّ شفيق بالرد، ولكنه سمع في تلك اللحظة قرعاً شديداً على باب البيت، فنظر إلى الخليفة نظرة متسائلة، فأذن الخليفة له بفتح الباب، فهرع إليه، وفتحه ليجد أمامه شرطياً عابس الوجه يخبره أن جيراناً له اتصلوا بمخفر الشرطة مشتكين ومدعين أن في بيته رجلاً يُضرب بقسوة ووحشية ويصرخ مستنجداً متوجعاً، فدهش شفيق، وأنكر مزاعم الجيران بصوت حانق، وقال للشرطي: "بعد وفاة السيدة الوالدة لا أحد يعيش في هذا البيت سواي، وفي استطاعتك التأكد بنفسك، فتفضل.. البيت بيتك".
فدخل الشرطي البيت، وفتش غرفة غرفة تفتيشاً دقيقاً متأنياً، ولم يعثر لا على مضروب ولا على ضارب، فازداد عبوس وجهه، وخرج من البيت راثياً لأحوال الناس المبتلين بجيران كذابين.