قصة قصيرة : بقعة - زويا ﭘــيرزاد

 

قصة قصيرة : بقعة - زويا ﭘــيرزاد

قصة قصيرة : بقعة - زويا ﭘــيرزاد

بقعة | زويا ﭘــيرزاد

 ترجمة أحمد موسى


وضعت المرأة غزلها على ركبتها وأمالت رأسها إلى الخلف، وبهدوء أدارَت رقبتها يُمنةً ويُسرة، وبيدها اليسرى مسَحت على كتفها الأيمن. كانت ترى الزقاق من المكان الذي جلسَت فيه؛ هناك حيث الأطفال يلعبون الكرة في جو قائظ وخانق. أسنَدت المرأةُ رأسَها إلى سكينة أريكة ثم أغمضت عينيها. كانت تُميِّز الأطفالَ بوضوح من أصواتهم، واحداً تلو الآخر؛ كان هذا علِيّ الذي يصرخ: "مَرِّر الكرة!"، وذلك الذي يضحك مقهقِهاً محمد، وبهروز يصيح بأعلى صوته: "لا تُلاجِج، لم تدخل الكرة إلى المرمى!"، وخسرو يصيح بشدة: "هيّا، سدِّد الكرة!". وكان صوت بكاء يطرق الآذان، لقد كانت مَعْصومة أخت محمد، كانت تضجّ بالبكاء دون توقف حين لا يلاعبها الأولاد. كان أيضاً يُسمَع صوتُ بوق درّاجة، لقد أحضروا جرائد المساء. تململت المرأةُ برأسها على الأريكة الوطيئة، تدثَّرَت بأصوات الزقاق المألوفة وبحرارة الصيف اللافِحة كما تتدثَّر بلحافٍ ناعم وأسلَمَت نفسَها للنعاس.


قبل ثلاثين سنة كانت قد اجتازت ضوضاء هذا الزقاق بمعية زوجها، ودخلت لأول مرة هذا البيت الصغير، يومَها أَيضاً كان الأطفال يلعبون الكرة في الزقاق. ربما كانوا آباء محمد وبهروز وعلي. وكانت بنت صغيرة تنتحب في ركن. حينذاك لم يكن بالباحة مزهرية ياسمين. ولم يكنْ أيضاً يوجَد بِكُوّاتِ الغرفة تماثيل خزفية صغيرة. كل هذه الأشياء ظهرَت بالتدريج فيما بعد. في البدء مزهرية ياسمين واحدة، ثم الثانية. في الأول تمثال غزال صغير، ثم غزال آخر، ثم فيل صغير ذو خرطوم بنعومة إبرة. وبمرور السنين، وشيئاً فشيئا، أترعت المرأةُ بيتَها الصغير بمزهريات ياسمين وتماثيل وأشياء أخرى. 


كان الزقاق بأصواته الصاخبة خلال النهار وسكونه خلال الليل بمثابة ورق مذهّب يغطي وجه هذه المجموعة الأَلِفَة الأنيسة. كانت حياتها مثل خط مستقيم، مثل شِلّة حرير امتدَّت الآن وطالَت أكثر فأكثر حتّى لفَّت كاملَ السّجّاد. استمرت حياتها ثلاثين سنة على هذا المنوال. ثلاثون سنة تشابَهت كل أعوامها وكل شهورها وكل أيامها، بلا أدنى تغيير، ودونما حادثة. ولم يكن للمرأة أيُّ شكوى من هذه الناحية، بل كانت متوجسة من حدوث حادثة. فكانت تهيج وتموج مع كل نزلة برد عادية تصيبها أو تصيب زوجها، ليس فزَعاً من المرض بل جزَعاً من التغيير الذي سيطرأ على برنامج حياتها. كانت تحبّ أن تكون مطَّلِعةً بدقّة على ما سيواجهها كل يوم وكل ساعة. وحتى تتعوّد على أيِّ تغيير يستجدّ في حياتها كان يلزمها وقت طويل جدا. ذات مرة، اشترَتْ طنجَرةً جديدة فمرَّت أيامٌ وأيام وهي مركونة في جانب من المطبخ حتى ارتضَت أخيراً طهوَ الطعام فيها. ومع ذلك، لم يستسغ فمَها الأكلَ الذي أَعَدَّتْه في الطنجرة الجديدة.


زواجُها هو الحدث الوحيد في حياتها. وهي تجد صعوبة بالغة في استحضار فترة ما قبل الزواج. تستشعر ذكرى غامضة عن أبويْها اللذين ودّعا الحياةَ سنوات قبل زفافها. بالنسبة لها، فالحياة ابتدأت من اليوم الأول لزواجها. غير أنها الآن، حتى هذا اليوم لا تتذكَّره بصورة جيدة. وكأنها تزوجت يوم ولادتها أو وُلدَت يومَ زواجها. نادراً ما كانت تفكر في الأيام التي سبقت زواجها، كان هذا الأمر شاقا عليها، وكأنَّ عليها أن تفكِّر في شيء ليس له وجود، وكأن عليها أن تفكر في حياة شخص آخر. لما كانت تُسمِّر عينيها في صور الماضي الممتدّ لم تكن تتعرّف نفسها؛ الفتاة شاحبة اللون التي في الصور والمرأة الموقرة المستلقية في حر هيكلها السمين التي تتفرج على الصور غريبتان عن بعضهما البعض. والفتاة لم تكن تُحرِّك ساكناً في ذهن المرأة. بقدر ما كانت الحياة قبل الزواج بالنسبة لها بعيدة ومبهمة وغريبة، كان استحضارها لمرحلة ما بعد الزواج يسيراً وجليّاً. وكأن كلَّ أعوامها كان عاماً واحداً، وكل شهور ذلك العام كان شهراً واحداً، وكل أيام ذلك الشهر كان يوماً واحداً، اليوم الذي كانت كلُّ لحظاته مأنوسة وحميمة وأَلِفَة.


حين كانت تستيقظ صباحاً وقبل أن تباشر أيَّ عمل كانت تشغل الراديو. بعد ذلك تبسط مائدة الإفطار، بينما المذيع يسترسل في نشرته الإخبارية. لم تكن قط تصغي إلى الأخبار، لكن صوت المذيع كان بالنسبة لها مألوفاً ويبعث على السكينة والهدوء. عندما كان يذهب زوجها إلى إدارته كانت تنبري المرأة لغسل الأواني، بعد ذلك تسكب لنفسها كأساً من الشاي، وتجوب البيتَ وكأسُ الشاي بيدها. تُطلّ على الغُرَف وتذهب إلى الفناء وترتشف شايَها وهي تحصي في ذهنها أعمالَ يومها. بعد ذلك كانت ترتدي  ملابسَها وتخرج للتبضُّع. عند العودة كانت تنظف البيت ثم تغسل الملابس وتكويها. لم يكن زوجها يرجع إلى البيت لتناول وجبة الغذاء. فكانت، في الغالب، تتناول الطعام الذي فَضَل من ليلة أمس. خلال العصاري، كانت أحياناً تزُور جيرانها ومعارفها؛ ثُريّا التي توفَّت أمُّها ومهين هانِم التي أنجبَت حديثاً.


لم ينجبا أولاداً، ولم يكن للمرأة أي شكوى من هذه الناحية، بل ربما كانت راضية، لأنه كان يصعب عليها تصور كائن حي وجديد في بيتها. لأنه كان عليها أن تقلق وأن تسعد من أجله. وهي لم تكن تحبّ لا القلق ولا الابتهاج، الطفلُ يعكِّر صفو الحياة ويُخِلُّ بهدوئها بينما كانت هي تحب هذا الهدوء أكثر من أي شيء آخر. خلال الأماسي بعد أن كانت تنتهي من إعداد وجبة العشاء، كانت تجلس على أريكة كبيرة وترهف سمعها إلى الأصوات المنبعثة من الزقاق. وقُبيل حلول الساعة السابعة بدقائق تتطلع إلى الزقاق منتظرةً عودة زوجها. كان بيتهما يقع إلى منتهى الزقاق حيث كان ممكناً رؤيته من النافذة بالكامل وحتى نقطة التقائه بالشارع. عادة ما يكون الزقاق في السابعة ليلاً مظلماً وساكناً وخالياً. وحدَها تلك الناحية من الشارع التي تُرى من النافذة، كانت دوماً مضيئة. تتراءى من بعيد، من حيث جلست المرأة، أضواءُ لوحات النَّيُون ومصابيح السيارات والمحلات التجارية وهي تركض متداخلة، وتبدو مثل نقطة ضوء كبيرة تدور حولَها غوغاءُ الشارع بسرعة وبصورة دائمة كأنها هالة. لم تكن المرأةُ تحبّ هذه النقطة، إذ لمّا كانت تمعن فيها النظر تتخذ أشكالا غريبة ومخيفة فتدبّ في أذنيها همهمة مبهمة. أحياناً كانت تحس أن هذه النقطة تقترب أكثر فأكثر وتكبر وتكبر حتى لكأنها تريد ابتلاعها، فتستحيل الهمهمات المبهمة قهقهات مجلجلة ومرعبة. بيد أن المرأة كانت مرغمة على النظر إلى النقطة لأنه آجلاً أو عاجلاً سوف تنفكّ عنها بقعة سوداء وتأتي نحوها. كلما اقتربت البقعة أكثر قلَّ خوفُ المرأة، فتكبُر البقعة شيئا فشيئا ويتغيَّر شكلُها، فتلمَح المرأةُ زوجَها وهو يقصد البيتَ بهدوء وأناة. كانت هذه أفضل لحظة في يومها. اللحظة التي تكمل فيها بقعة سوداء وصغيرة مجموعَ حياتها الصغيرة المؤنِسة والأَلِفَة. فينتفي خوفُها من نقطة الضوء الكبيرة.

فتحت المرأة عينيها، كان الليل قد أرخى سدولَه، ولم يعد يُسمَع أيُّ صوت من الزقاق. نظرَت إلى ساعتها، كانت تشير إلى السابعة ليلاً. أبصرت الشارع، فإذا بالبقعة السوداء الصغيرة قد وصلت إلى منتصف الزقاق. أخذت نفَساً طويلاً وهبَّت واقفةً، كان عليها أن تغرف الطعامَ في الطبق.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-