كتب للقراءة : بيت في الدنيا وبيت في الحنين - إبراهيم الكوني
بيت في الدنيا وبيت في الحنين - إبراهيم الكوني
كان يروض بناي القصب لحنا عصيًا من لحون الحنين في خلوة المساء عندما باغته حكيم الجن. لوعته الوحشة في عزلة المراعي، فخاض في أوحال المستنقع المتخلف عن غدران السيول ليستقطع من عيدان القصب ساقا دبر منها نايا لئيما نعته حكماء الرعاة فقالوا: ليس كمثله في الصحراء آلة استطاعت أن تحتال على الخفاء، وتستجدي من أركانه معشوقا اسمه الحنين. وقبل أن يعارك ساق القصب لاستدراج الحنين، احتال على المجهول، وحاول طويلًا أن يستدرج الحنين بالصوت، بالأغاني، ولكنه أخفق دائما، فلم يجد مفرا، للتنفيس عن كربته، غير الدموع.
لم يذكر نفسه إلا باكيا: إذا استصغره الأغيار بكى، وإذا استكبروه أيضا بكى، وإذا سمع لحنا شجيا بكي، وإذا رأى رتمة تزهر راعه البهاء وبكى، وإذا أبصر الفراخ الجرداء في أعشاش الطير زعزعه الشوق وبكى. ولكن لا يبكيه شيء كما تبكيه اللامبالاة القاسية في معشوقتيه الخالدتين: السماء وقرينتها السفلى الصحراء.
لم يفهم سر شجنه، فحاول أن يخفي، بسبب ذلك، عن الناس سره. ولكنه اكتشف سريعا أن الهم، كالعشق، أمر لا يخفى. الهم، کالكنز، لا يخفى. الهم، ككل سر عن الناس، أعجوبة لا تخفى.